اخبار مصر

«روح واحدة».. وخمس حيوات | مصراوى

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يُقدِّمُ لنا الكاتب والفنان التشكيلي أحمد عاطف درة في روايته «روح واحدة» (دار الهالة، 2023) خمس شخصيات؛ عاش كل منها في عصرٍ مختلف من عصور التاريخ المصري العريق، فهل هي خمس شخصيات فعلًا، أم هي روح واحدة تجسدت في تلك الشخصيات؛ فتفاعلت في كلِّ مرةٍ مع عصرٍ جديد من تاريخنا؟ في الرواية يبرز الرمز الحاكم، وهو الثعبان الذي يخرج من جلده القديم؛ ليبدأ مرحلةً أخرى من حياته، فالجسدُ الآدمي مثل جلد الثعبان، ما هو إلا رداءٌ نتجسَّدُ من خلاله لفترةٍ تطول أو تقصر، ثم نتجاوزه إلى حالة أخرى تُدخِلُنا عالمًا جديدًا، كما مرَّ الإنسان المصري عبر مختلف عصور تاريخه الطويل بحقبه المتتالية والتي يعود إليها المؤلف مع كل شخصية من شخصياته.

بغلاف مميز باللونين الذهبي والأزرق، عبارة عن أربع شخصيات في كل ركن للغلاف، وفي المنتصف تمامًا رسمة لثعبان يتشابك مع عدة خطوط، وفراشتان على جانبي هذه الرسمة، نتابع عبر 248 صفحة، رحلة فكرة نفسية روحانية صوفية تعكس تلك الروح الشفافة، التي تتنقل في أزمنة مختلفة مرت بها مصر، في أجساد أبطال مختلفين، تدفع بالأسئلة الوجودية لتثور داخلنا ونعيد قراءة أنفسنا، لتكون القراءة كما الكتابة رحلة بحث في أعماق الحقائق عن الحكمة التي كانت دائمًا مفتاح الحياة في أرض سماها الأجداد كيمت.

تثير الرواية فضول القارئ وتدفعه إلى تتبع الشخوص، كما تثير قضايا فلسفية حول تغيُّر الأزمنة وثبات الروح. تزخر الرواية بالكثير من المعلومات التاريخية، مع حُسن التوظيف في الخط الدرامي.

«روح واحدة» رواية وجدانية يميزها الجانب التاريخي الذي يتطرق إلى حقب مختلفة من تاريخ مصر القديم والحديث، وهي تثير بلغتها الجذابة أسئلة كثيرة تجعل القارئ يعيد التفكير فيما يعيشه.

يحيط الكاتب في روايته بجوانب التركيبة البشرية التي تتأرجح بين الخير والشر، الروح والجسد، من خلال أبطال الرواية الخمسة.

نقرأ في الرواية: «لم أجِدْ إلَّا الحُبَّ سلاحًا في هذا الكون، هو وحدَه الذي يخترِقُ قلبَ أعتى الوحوش» (ص 101).

مع الباب الأول الذي جاء بعنوان «المغنية» ويدور في قرية كوم بوها، ديروط، أسيوط، في يناير 1855، نتابع حكاية الفتاة «سجية» التي تبلغ سن التاسعة عشرة. تقول:

«يومي يبدأ قبل الفجر ككل يومٍ جميل، تعرفُ خطوتي كل طرق القرية، تطرق لي بلطفها المعتاد. لم أتعثر فيها سوى في يوم واحد عندما قتلني البكاء ذات مرة. شعرتُ أنها متأسفة لذلك؛ لكنني سامحتها ومضيت» (ص 7).

تُطعِم «سجية» الكتاكيت في الحظيرة، وتعود إلى بيت عمها لتفرح معهم بسبب صدور مرسوم من الوالي سعيد باشا بإلغاء جزية الأقباط.

«عدتُ إلى منزل عمي لأجد جمعًا غير منتظر يملأ المنزل. كانت الضحكات تنتشر في الأرجاء، والأنفس مبتهجة والسرائر منفرجة، وأنا أستعد كي أسألهم عن موعد الإكليل واسم العروس؛ حتى انطلقت زغاريد وصل صداها إلى آخر نجع في الصعيد. لا يسمح الفرحُ بأي شعور بجانبه، غاية الحكاية أن تبتهج وتندفع مع آخر الجمع في فيضان الانسجام، ولا يحتاج الأمر أحيانًا إلى سبب؛ إذ إن الفرحَ مُعدٍ ويتكاثر بسرعة كصدى الصوت في الغيطان الساكنة» (ص 9).

يوضح لها «عم بشندي» أن «القصة نصرة قوية للأقباط بعدما أراد الوالي عباس باشا أن يُهجِّرنا كلنا إلى السودان من ستة شهور فقط، وأيضًا رَفتْ كل الموظفين الكبار من بيننا، وهدد برمي جثثنا في النيل» (ص 10).

في ليلتها الأولى في القاهرة بعد وصولها من أسيوط، تستوقف «سجية» تفاصيل حميمة تخص هذه المدينة:

«أصوات الأذان تملأ خلجاتي أول مرة، تتداخل أصوات المؤذنين من كل حي في القاهرة. من القلعة يخرج صوت رخيم يتمتم به مؤذن كأنه يصحي الكون برفق من نومه رغم أننا في الغروب، ويصبح كأنه الأصل لكل الأصوات الأخرى. من نواحي مسجد الرفاعي؛ انطلق صوتان مزدوجان في نبرةٍ قوية تعلم الحاضر والغائب بنداء الله، ومن مسجد السلطان حسن يعلو صوتٌ رشيق فوقهم جميعًا كأنه غزال الأصوات ونفير الوحي؛ يعلو ويهبط ويتغزل في الكلمات وينطلق بها في فضاء السماوات، فتطربُ الطير وترقص فرحًا وتسبحُ بحمده» (ص 24).

إلا أن حياتها تتغيّر تمامًا بعد الاستماع إلى صوت الشيخ المسلوب.

والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، لمن لا يعرف، هو شيخ ملحني القرن التاسع عشر، ويُنسب إليه إبداع فن الدور الغنائي الذي ظل اللون السائد في الغناء، إلى أن طوّره من أسلوبه البدائي محمد عثمان، وذلك الرتل الطويل من الملحنين الذين عملوا فيه تهذيبًا مثل: داوود حسني، وسيد درويش، وعبده قطر، ومحمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد.

والشيخ المسلوب الذي وُلِدَ في القاهرة، تعلَّم قراءة القرآن الكريم وتجويده في الكتاتيب مذ كان يافعًا، وقبس فنون الإنشاد الديني وقراءة القصة الشريفة من حلقات الأذكار في الزوايا الصوفية التي كان يتردد إليها، ثم انطلق إلى عالم الغناء الدنيوي من دون أن يتخلى عن الإنشاد الديني، وتعمَّق فيه حتى صار أستاذًا في فن الدور والموشح والأغنية الخفيفة، وعلمًا من أعلام الغناء، فتربع على عرش الطرب والتلحين.

تصف الفتاة «سجية» الشيخ المسلوب في الرواية قائلة:

«كان الشيخ المسلوب رجلًا مهيبًا تجاوز الستين من عمره، لكنه كان عفيًا ومبتهجًا. كان يرتدي عمامة رقيقة ولثاة حريرية منقطة وجلبابًا من القماش المقلم اللامع وعباءة كحلية واسعة.

انطلق المسلوب دون (احم ولا دستور) مغردًا:

– يا حليوة يا مسليني، يا بدر حبك يكويني… إملا المدام يا جميل واسقيني… من كتر شوقي إليك لا أنام.

لقد بهتُ وانتابتني قشعريرة لا تتوقف» (ص 34).

تتوالى الأحداث بعد أن تقرر الفتاة أن تصبح مغنية، وتتجاهل سؤال خالتها: «هل تريدين تركَ التسبيح لتصبحي مغنية؟» (ص 38).

في الباب الثاني تحت عنوان «الفلاح»، جاءت شخصية المصري «أحاد بن سيريون» عام 196 ميلادي والذي قال ابنه الأوسط «رحون» إن النيل يعطي روحًا للشمس والأرض (ص 58). بعد معاناة من اتهام الابنة بممارسة السحر، وفرض الضرائب الجائرة على أهل القرية، يلجأ أحاد بن سيريون إلى القائد أمونيوس باتريوس أبستراتيجوس مدير عام الإقليم، وبعد أن قوبل بالصلف والعنجهية واتهام الشعب بالغباء والجهل، يُلقي الفلاح قنبلته الأخيرة:

«هذا الشعب أعظم َ الشعوب، هو الذي جعل روما إمبراطورية وجعلك هنا مديرًا عامًا، نحن وأرضنا من نُطعمُ روما منذ مئتي عام وقبلهم اليونان، نحن الذين جعلوا منهم سلَة غذائكم لتكبر بلادكم وتحكُم العالم» (ص 77).

في المواجهة، يقول القائد:

«إنكم أمةٌ جاهلةٌ بالقوانين كما قال عنكم مؤرخنا تاكيتوس أنسيام ليجوم.

أعليتُ من صوتي كأنني في خطبةٍ تاريخية:

-لقد قال الإغريقي ديودوروس عنا قبله بمئة عام إننا أمةٌ تحترم القوانين. خمسمئة عام حكمتمونا أنتم والبطالمة ولم تستطيعوا تغييرنا. هل تعرف قانون ماعت؟ نحن لا نملأ قلوبنا كرهًا لأحد، ولا نسيء معاملة الناس، ولا نتسبب في دموع أي إنسانٍ أو شقاء حيوان ولا نعذب نباتًا، نملأ قلوبنا بالحق والعدل فقط» (ص 77).

نصل إلى الباب الثالث وهو الباب الأوسط وأتى عن «الأم» 331م بالصحراء الغربية وهي «منجودة« الأرملة التي يراودها رئيس قبيلتها.. فكيف تُجبر الروح الحُرة على ما لا يليق بها؟!

في الباب الرابع نجدنا أمام «المعلم» عام 2160 قبل ميلاد المسيح، والحكيم «آني».. وكيف يعيد ترميم روح خربت!

وفي الباب الخامس يختتم الكاتب الشخصيات؛ حيث نصل إلى: «المتصوف» عام 1572م وهذه المرة نذهب إلى اليمن؛ حيث يقف جندي مصري خارج حدود معسكر جيشه العثماني والذي هُزِم من قبائل عربية.. لم يكن يستطيع العودة إلى داخل المعسكر والجيش والحروب فكل هذا : «يخنق الروح».

وكما بدأ الكاتب بمقدمة شفيفة، اختتم عمله بحديثٍ روحاني تحت عنوان «إكسير»، بدا فيه وكأنه يقف أسفل سماوات الله في عُلاه، يدور ويدور في رقصة تنورة لا تنتهي قائلًا:

«خمس حيواتٍ خلقني بها ربي كأصابع الإنسان وحوافر الدواب، ولا نسأل الله عما خلق.. ليست الروحُ براحًا بين شمسٍ ساطعةٍ ونارٍ متوهِّجة، ولا مسافةَ بين أملٍ مرجوٍّ ويأسٍ لانهائي، ولا اضمحلال للذات في مقابل ارتقاء الوجدان؛ بل هي كلُّ ذلك وأكثر» (ص 242-243).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى